الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط ذهبت إلى عقد مؤتمر أنابوليس ليس لحل الصراع العربي/ الإسرائيلي ولا الفلسطيني/ الإسرائيلي، وإنما لهدف آخر. ويظهر هذا الهدف بوضوح تام من جلسة الاستماع التي عقدها مجلس النواب الأميركي، وحضرتها السيدة رايس وزيرة الخارجية منذ أسبوعين. ففيها أقر الجميع تقريباً بأن الأمل في أن يحدث المؤتمر اختراقاً نحو السلام محدود للغاية، إن لم يكن منعدماً. وأن الهدف من المؤتمر هو التغطية على الصراع الأميركي مع إيران، أو في الحقيقة تحييد الفلسطينيين والعرب عموماً عندما يشتعل هذا الصراع، ربما كما يتوقع كثيرون في شكل ضربات جوية أميركية أو إسرائيلية مُركَّزة لإيران.
وفي هذه الحالة سوف يتحمل العرب عموماً وعرب الخليج خصوصاً الضريبة الأساسية بأشكال وفي مجالات متنوعة.
ومن هذا المنظور لا يستطيع العرب أن يقفوا مكتوفي الأيدي في انتظار اشتعال الصراع العسكري، الذي لن يمكن حصره في الخصمين الرئيسيين: أي الولايات المتحدة وإيران. بل إن إدارة بوش ستذهب، بل وقد تذهب الولايات المتحدة كلها بعيداً أو قريباً من المنطقة، بينما يبقى إرث هذه الحرب ومختلف صور الصراع السياسي والعسكري التي سبقتها ليحلِّق في سماء العلاقات العربية- الإيرانية طويلاً في المستقبل. فكل حرب تنشئ الظروف لانفجار حرب أو حروب لاحقة قد تكون منبتة الصلة بالسابقة عليها من حيث الموضوعات أو المضمون. بل يمكننا القول إنه حتى لو لم يتحمل العرب الضريبة الأساسية لاشتعال الصراع الإيراني/ الأميركي, فإن الهدف الحقيقي لأي تصعيد أميركي وإسرائيلي هو إضعاف المنطقة ككل، ومن ثم الهيمنة عليها وإخضاعها.
ما نطرحه هو أن تدعو دول مجلس التعاون الخليجي إيران لتحويل برنامجها الخاص إلى برنامج إقليمي مشترك، للاستخدام السلمي للطاقة الذرية.
والموقف السليم فيما أرى هو أن يقوم العرب بمبادرة قوية لقطع الطريق على سيناريوهات الحرب، ولصنع مسار جديد وبنَّاء بين العرب وإيران لمصلحة الطرفين ولصالح الحضارة العربية الإسلامية ككل.
ماذا يمكن أن تكون هذه المبادرة من حيث المضمون؟ مثل أي مشروع سياسي كبير يجب أن تتأسس المبادرة العربية على رؤية ثقافية, وأن تكون قادرة على تحقيق هدفها العملي المباشر، وأن تكون مفتوحة لمزيد من التراكم السياسي انطلاقاً من توازن المصالح والفائدة للطرفين. وتُبنى الرؤية الثقافية على ما هو مشترك وخالد بين العرب والإيرانيين، وتُبنى تحديداً على الأمل في بعث وتجديد الحضارة الإسلامية. فلا يمكن النظر للحضارة الإسلامية باعتبارها عربية فقط، ولا إيرانية فقط. فهي بالتعريف حضارة عالمية. ويجب أن نؤكد للجميع أن هذه الحضارة شريك أصيل وليست نقيضاً للحضارة الإنسانية، وأنها لا زالت قادرة على العطاء الأصيل للحضارة العالمية الواحدة. بذلك نحسم حقيقة أن حضارتنا الإسلامية إنسانية في الجوهر، وأن رسالتها تنهض على مفهوم الإعمار والسلام، لا على مفهوم الإقصاء والحرب. والواقع أن علينا نحن كعرب أن نتحرر تماماً من المفهوم الذي "ثبَّت" التناقضات بين العرب والثقافات الإسلامية الأخرى منذ القرن الرابع الهجري: أي مفهوم "الشعوبية". فالإسلام يعترف بحق جميع الشعوب في أن يكون لها تنظيمها السياسي وحقها في تقرير مصيرها، دون أن يعني ذلك الفصل بينها. وقد يكون الصراع السياسي بين القوميات "مفهوماً" غير أن حله ممكن وضروري عبر استيعاب الحاجة للتوازن بين المشترك الإنساني والإسلامي من ناحية، والخصوصيات التاريخية والثقافية من ناحية أخرى.
تستند المبادرة التي ندعو إليها إذن على إحياء المشترك الإنساني والتاريخي والإسلامي بين العرب والإيرانيين. ويعني ذلك أنها مبادرة تستهدف إحياء العلاقات المتميزة والبنَّاءة بين الشعوب والقوميات الإسلامية، وتأكيد المسؤولية المشتركة عن إحياء وتجديد الحضارة الإسلامية. ولضمان فعالية هذه المبادرة في قطع الطريق على سيناريوهات الحرب الأميركية الإسرائيلية يجب أن يساهم كُتاب ومفكرون متنوعو الخبرات والاجتهادات الفكرية في صياغتها. ومن ثم لا تتعلق هذه المبادرة بفكرة أو قضية واحدة. بل يمكن أن تتسع لأفكار وأطروحات ودعوات كثيرة. غير أن من الضروري أن تواجه المشكلة التي تسبب الأزمة بين إيران والولايات المتحدة تحديداً والغرب بصفة عامة.
وهنا نأتي إلى الجانب المباشر للمبادرة التي ندعو لها.
المبادرة التي ندعو لها ليست سهلة ولا بسيطة، وقد لا تكون مقبولة إيرانياً بسهولة. فما نطرحه هو أن تدعو دول مجلس التعاون الخليجي إيران لتحويل برنامجها الخاص إلى برنامج إقليمي مشترك للاستخدام السلمي للطاقة الذرية. جوهر الدعوة هو أن ينتهي الصراع الإيراني/ الأميركي على الملف النووي بتحويله إلى ملف إقليمي يتسع لكل دول الخليج, فيتم تمويله بصورة مشتركة ومن ثم المساهمة في إدارته بصورة تعددية، وخاصة من جانب دول الخليج. وربما يدخل العراق مستقبلاً في هذه الإدارة. ويوجه البرنامج لمنفعة جميع هذه الدول، وخاصة لو وجه لخدمة أغراض مشتركة مثل تحلية المياه. ولاشك أن الفكرة طموحة للغاية. ولذلك قد يعدها كثيرون مثالية أو غير قابلة للتطبيق. فإيران رفضت قبل ذلك أفكاراً أقل ضخامة للتأقلم مع مصالح أساسية ومخاوف كبيرة لدول الخليج. بل رفضت مجرد بحث فكرة نقل مفاعل بوشهر لضمان أن يبقى التسريب الإشعاعي بعيداً عن مياه الخليج لرفع الضرر الذي قد يلحق بشعوب المنطقة، بسبب احتمالات التلوث الإشعاعي. كما أن من المفهوم أن إيران تطمح في الواقع لأن تبني قدرات نووية كجزء من تحولها إلى دولة كبرى ذات وزن، وحركة واسعة في المنطقة وفي العالم، وهو ما يجعلها تحرص على أن تحتكر إدارة هذه القدرات.
سلام عليكم والرحمة
وعلى رغم وجاهة هذه الاعتراضات فهي لا تقتل الفكرة. فأولاً، كان موقف إيران جامداً لأن مختلف الأفكار البنَّاءة والإيجابية التي طُرحت عليها من حكومات أو خبراء لم تكن جزءاً من مبادرات كبرى وطموحة. وثانياً، فإن المناخ الاستقطابي والاستنفاري الذي طرحت فيه بعض المبادرات كان كافياً لقتلها انطلاقاً من مشاعر "الفخر القومي" الإيرانية، وخاصة أن النزعة القومية انتعشت كثيراً في إيران خلال السنوات الخمس السابقة.
ونعتقد أن استجابة إيران ستكون مختلفة كثيراً فيما لو طُرحت هذه الفكرة كجزء من مشروع أضخم يشتمل على صور شتَّى للتعاون بين العرب وإيران، بحيث يصبح التعاون في المجال النووي جزءاً من إعادة بناء للحضارة الإسلامية، أو للرابطة بين العرب وإيران. ومن ناحية أخرى فإن الفكرة ينبغي عدم وضعها في قالب وحيد. فالمطلوب ليس بالضرورة إدراج المشروع النووي الإيراني كله في هيئة إقليمية تعددية. بل يمكن أن يتم التفاوض حول عدة اختيارات. فمن الممكن على سبيل المثال أن تُنشأ هيئة إقليمية لوضع وتطبيق وإدارة مشروعات للتعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية. وتتعاون هذه الهيئة الإقليمية مع المشروع النووي الإيراني كهيئة مستقلة. غير أن التعاون الحتمي بينهما سيفتح بالضرورة الباب أمام التركيز على الاستخدام السلمي للطاقة الذرية على المستوى الإقليمي. وعندما يُتاح تمويل كبير لمشروعات الاستخدام السلمي، وخاصة في ظروف الأزمة الاقتصادية، سيكون من الصعب على إيران أن تنصرف للاستخدامات العسكرية.
وبوجه عام يفتح هذا الاقتراح الباب أمام اشتباك إيجابي مباشر بين الدول العربية في الخليج وإيران حول المشروع الذري, وهو ما يفتح بدوره باباً كبيراً للمتابعة العربية الدقيقة وإمكانية التأثير على القرار الإيراني ولو بصورة غير مباشرة. والأهم أن الفكرة ستحقق الغرض الأساسي منها وهو قطع الطريق على التصعيد العسكري، وتعبيد الطريق أمام حلول سياسية لمختلف القضايا المثارة، ومن بينها الملف النووي. والشرط الأساسي لنجاح هذه الفكرة أن تكون جزءاً من رؤية تتراكم تطبيقاتها، وتتعدد محاورها ومجالاتها، بحيث تبعِد شبح الحرب، وتؤسس لعلاقة سلام ممتد بين العرب والإيرانيين.